القائمة الرئيسية

الصفحات

الدروس المستفادة من معجزة الإسراء والمعراج

 

الدروس المستفادة من معجزة الإسراء والمعراج

 

في ذكرى معجزة الإسراء والمعراج (1\6)

يروي مؤرخو السيرة النبوية الشريفة أنه في يوم الإثنين السابع عشر من ربيع الأول من السنة السابقة على هجرة رسول الله ﷺ (وقيل في 27 رجب من نفس السنة أي: في حدود سنة 620م) طاف رسول الله ﷺ حول الكعبة ليلا وحيدا، ثم رجع إلى بيته وأوى إلى فراشه، وعند منتصف الليل جاءه جبريل عليه السلام وأخبره بأن الله تعالى يدعوه إلى السماء.

تحرك الركب الكريم على البراق من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وصلى رسول الله ركعات في بيت المقدس ومعه الملائكة الكرام، ثم عرج به عبر السموات السبع حتى وصل إلى سدرة المنتهى، وهناك شاهد جنة المأوى، وراح يصعد حتى وقف بين يدي رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما وسجد ﷺ قائلا: "التحيات المباركات والصلوات الطيبات لله"، فرد الحق عز وجل قائلا: "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته"، فردت الملائكة لهذه التحية الربانية قائلة: "السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين". وقد جعلت هذه التحية بداية التشهد الذي يردده المسلمون في صلواتهم التي فرضها الله تعالى عليهم في هذا الموقف العظيم، وأوحى الله إلى خاتم أنبيائه ورسله ما أوحى، وكان من ذلك الصلاة المفروضة على المسلمين.

وقد رأى رسول الله ﷺ في هذه الرحلة المباركة من آيات ربه الكبرى ما لم يفصح القرآن الكريم عن تفصيله، وإن ذكرت السنة النبوبة المطهرة طرفا منه. وبعد رحلة التكريم الإلهي تلك، عاد رسول الله ﷺ إلى بيت المقدس، حيث صلى بأنبياء الله ورسله إماما، ثم عاد إلى مكة المكرمة ليجد فراشه لا يزال دافئا.

وفي صبيحة ليلة الإسراء جاء جبريل عليه السلام ليعلم رسول الله كيفية الصلاة وأوقاتها، وكان ﷺ قبل مشروعية الصلاة يصلي ركعتين صباحا وركعتين مساءً كما كان يفعل إبراهيم عليه السلام. وفي ذلك يروي كل من الترمذي والنسائي عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال: "جاء جبريل إلى النبي ﷺ حين زالت الشمس، فقال: قم يا محمد فصل الظهر حين مالت الشمس، ثم مكث حتى إذا كان فيئ الرجل مثله جاءه للعصر فقال: قم يا محمد فصل العصر، ثم مكث حتى إذا غابت الشمس جاءه فقال: قم فصل المغرب، فقام فصلاها حين غابت الشمس سواء، ثم مكث حتى إذا غاب الشفق جاءه فقال: قم فصل العشاء، فقام فصلاها، ثم جاءه حين سطع الفجر في الصبح فقال: قم يا محمد فصل الصبح".

وقد بين هذا الحديث أول كل وقت، وله بقية اشتملت على بيان نهاية الوقت، ومن تلك البقية "أنه جاءه في اليوم التالي، وأمره بصلاة الظهر حين بلغ ظل كل شئ مثله، وأمره بصلاة العصر حين بلغ ظل كل شئ مثليه، وأمره بصلاة المغرب في وقتها الأول، وأمره بصلاة العشاء حين ذهب ثلث الليل الأول، وأمره بصلاة الصبح حين أسفر جدا، ثم قال له: ما بين هذين وقت كله.

 

في ذكرى معجزة الإسراء والمعراج (2\6)

وفي وصف رحلة الإسراء، يقول الله تعالى:*سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير* (الإسراء: 1).

والإسراء واقعة تاريخية لم ينكرها كفار قريش، وإن تعجبوا من كيفية وقوعها، فقد روى القاضي عياض في كتابه المعنون "الشفا بتعريف حقوق المصطفى" أن حادثة (الإسراء والمعراج) كانت قبل هجرته الشريفة بسنة، وأنه لما رجع رسول الله ﷺ من رحلته المعجزة تلك أخبر قومه بذلك في مجلس حضره من صناديد قريش كل من المطعم بن عدي، وعمرو بن هشام، والوليد بن المغيرة، فقال ﷺ: "إني صليت الليلة العشاء في هذا المسجد، وصليت به الغداة، وأتيت فيما دون ذلك بيت المقدس، فنشر لي رهط من الأنبياء منهم إبراهيم، وموسى، وعيسى، وصليت بهم وكلمتهم"، فقال عمرو بن هشام مستهزئا: صفهم لي، فقال ﷺ: "أما عيسى ففوق الربعة، ودون الطول، عريض الصدر، ظاهر الدم، جعد أشعر تعلوه صهبة (أي بياض بحمرة) كأنه عروة بن مسعود الثقفي، وأما موسى فضخم آدم طوال، كأنه من رجال شنوءة، متراكب الأسنان مقلص الشفة، خارج اللثة، عابس، وأما إبراهيم فوالله إنه لأشبه الناس بي خلقا وخلقا".

فقالوا يا محمد! فصف لنا بيت المقدس، قال ﷺ: "دخلت ليلا وخرجت منه ليلا، فأتاه جبريل بصورته في جناحه، فجعل رسول الله ﷺ يصفه لهم قائلا: "باب منه كذا في موضع كذا، وباب منه كذا في موضع كذا". ثم سألوه عن عيرهم (أي قوافل إبلهم)، فقال لهم ﷺ: "أتيت على عير بني فلان بالروحاء، قد أضلوا ناقة لهم فانطلقوا في طلبها، فانتهيت إلى رحالهم ليس بها منهم أحد، وإذا بقدح ماء فشربت منه، فاسألوهم عن ذلك قالوا: هذه والإله آية". وأضاف ﷺ قوله: "ثم انتهيت إلى عير بني فلان، فنفرت مني الإبل، وبرك منها جمل أحمر، عليه جوالق (وهو العدل الذي يوضع فيه المتاع) مخطط ببياض، لا أدري أكسر البعير أم لا، فاسألوهم عن ذلك، قالوا: هذه والإله آية"، وأضاف ﷺ قائلا: "ثم انتهيت إلى عير بني فلان بالتنعيم، يقدمها جمل أورق (أي لونه أبيض وفيه سواد)، وها هي تطلع عليكم من الثنية، فقال الوليد بن المغيرة: ساحر؛ فانطلقوا فنظروا، فوجدوا الأمر كما قال ﷺ.

وبدلا من أن يصدقوه، رموه بالسحر – شرفه الله عن ذلك – مضيفين إلى بهتانهم هذا قولهم الباطل: صدق الوليد بن المغيرة فيما قال. وتسارعوا إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه قائلين: هل لك إلى صاحبك، يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس، فقال أبو بكر: أو قال ذلك؟ قالوا نعم، قال: لئن كان قال ذلك فقد صدق، قالوا: أوتصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح؟ قال أبو بكر: نعم، إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة. ولذلك لقب أبو بكر بلقب "الصديق".

وهذا الحديث الصحيح هو وثيقة تاريخية على وقوع حادثة الإسراء، أما حادثة المعراج فقد أكدتها الآيات في مطلع سورة "النجم" وهي من خوارق المعجزات التي أخبرنا بها الله تعالى في محكم كتابه وهو خير الشاهدين، وفي ذلك يقول: *وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى* مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى* وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى* إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى* عَلَّمَهُ شَدِيدُ القُوَى* ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى* وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى* ُثمَّ دَنَا فَتَدَلَّى* فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى* فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى* مَا كَذَبَ الفُؤَادُ مَا رَأَى* أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى* وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى* ِعندَ سِدْرَةِ المُنتَهَى* عِندَهَا جَنَّةُ المَأْوَى* إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى* مَا زَاغَ البَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكُبْرَى* (النجم: 1-18).



في ذكرى معجزة الإسراء والمعراج (3\6)


الدروس المستفادة من هذه المعجزة الكبرى:

أولا: الإيمان بطلاقة القدرة الإلهية التي لا تحدها حدود والتي أسرت برسول الله ﷺ من مكة المكرمة إلى بيت المقدس، ثم عرجت به إلى سدرة المنتهى عبر السموات السبع، ثم أعادته إلى بيت المقدس ليصلي إماما بجميع أنبياء الله تأكيدا لمقامه ﷺ، ثم رجعت به إلى بيته في مكة المكرمة ليجد فراشه لا يزال دافئا. فقد أوقف الله تعالى له الزمن، وطوى المكان، ولا يقدر على ذلك إلا رب العالمين. وهنا يجدر التأكيد على أن كلا من الزمان والمكان من خلق الله، وأن الله تعالى قادر على إيقاف الزمن، وعلى طي المكان لمن يشاء من عباده.

ولكي ندرك ضخامة هذه المسافات أذكر: أن أبعد نجم أدركه الفلكيون في السماء الدنيا يبعد عنا مسافة تقدر بحوالي 9 بليون سنة ضوئية، والسنة الضوئية تقدر بنحو (9,5 مليون مليون كم)، بمعنى أنه لو فرضنا جدلا أن الإنسان تمكن من صنع مركبة فضائية تتحرك بسرعة الضوء (وهذا مستحيل)، فإنه سوف يحتاج إلى 9 بليون سنة ليصل إلى آخر ما نرى من نجوم السماء الدنيا. فما بالنا بست سموات فوق ذلك إلى سدرة المنتهى، حيث شرف المصطفى ﷺ بالمثول بين يدي ربه، وتلقى منه الأمر بخمس صلوات في اليوم والليلة.

ثانيا: الإيمان بأن الله تعالى الذي خلق كلا من المادة والطاقة، والمكان والزمان، هو فوق ذلك كله، ومنزه عن جميع صفات خلقه، وعن كل وصف لا يليق بجلاله، فلا تحده حدود أي من المكان أو الزمان، ولا حدود أي من المادة أو الطاقة، وهو تعالى قادر على إفناء خلقه وعلى إعادة بعثه.

ثالثا: التأكيد على مقام رسول الله ﷺ عند رب العالمين، فهو أحب خلق الله إليه، ولذلك أوصله إلى مقام لم يصل إليه غيره، ووضعه على رأس سلسلة الأنبياء والمرسلين، وهو خاتمهم أجمعين، ولذلك صلى بهم إماما في القدس الشريف، وجعل شريعته الخاتمة ناسخة لجميع شرائعهم. وفي ذلك أمرإلى جميع من يدعون إتباع نبي من الأنبياء السابقين بضرورة الإيمان بهذا النبي الخاتم، وبالقرآن الكريم الذي أوحى إليه واتباع الدين الذي جاء به، إعلانا بعموم رسالته التي اكتمل بها الدين، وتمت بها النعمة التي أصبحت واجبة على الخلق أجمعين.

رابعا: الإشارة إلى ضرورة الإيمان بوحدة رسالة السماء، وبالأخوة بين الأنبياء، وبين الناس جميعا، وهي قيم إسلامية أكدتها إمامة رسول الله ﷺ لجميع أنبياء الله ورسله في الصلاة بهم بالمسجد الأقصى، وعالم اليوم المضطرب بالفتن والمظالم، والغارق في بحار من المؤامرات المستترة والمعلنة، وما يرافقها من بحار الدماء والأشلاء، والخراب والدمار، ما أحوجه إلى استعادة هذه القيم الربانية السامية من جديد!!

 


في ذكرى معجزة الإسراء والمعراج (4\6)


خامسا: التأكيد على حرمة كل من مكة المكرمة وبيت المقدس، فعن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: سألت رسول الله ﷺ: أي مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: "المسجد الحرام"، قلت ثم أي، قال: "المسجد الأقصى"، قلت: كم كان بينهما؟ قال: "أربعون سنة".
وكل من الكعبة المشرفة والمسجد الأقصى قد تم بناؤه قبل خلق الإنسان، ومن هنا كانا مكانين لمن يعبد الله تعالى وحده (بغير شريك، ولا شبيه، ولا منازع، ولا صاحبة ولا ولد). ولا يمكن نسبة أي منهما إلى دين غير دين الإسلام وهو الدين الوحيد الذي يؤمن أتباعه بجميع أنبياء الله ورسله دون أدنى تفريق، ولذلك لا يرتضي ربنا تبارك وتعالى من عباده دينا سواه.

سادسا: التأكيد على فضل الصلاة التي فرضت من الله تعالى مباشرة إلى خاتم أنبيائه ورسله ﷺ، وهي على ذلك تعتبر معراج المسلم إذا أدى حقها بالخشوع والاطمئنان المطلوبين، حتى يستشعر لذة مناجاة الله في الصلاة، كما أصبح السعي إليها في صلاة العشاء والفجر يمثل مسرى رسول الله ﷺ، ومن هنا كانت آخر ما أوصى به قبل وفاته.

سابعا: الإيمان بوقوع معجزة "الإسراء والمعراج" بالجسد والروح معا، وفي حالة من اليقظة الكاملة، والتأكيد على صدق جميع المرائي التي رآها رسول الله ﷺ طيلة هذه المعجزة؛ وكان منها بعث للأنبياء والمرسلين السابقين ولقائهم به، وحديثهم معه، والله على كل شئ قدير، وكان من هذه المرائي: المكرمون من أهل الجنة في الجنة والمجاهدون (يزرعون في يوم ويحصدون في يوم)، وبلال مؤذن رسول الله ﷺ، وماشطة بنت فرعون وأولادها (يعبقون بريح المسك).
وكان منها النار وخزنتها والمعذبون فيها، ومنهم: الدجال والمتثاقلون عن الصلاة (ترضخ رءوسهم بالحجارة)، ومانعوا الزكاة (يأكلون الزقوم وعلى أدبارهم وإقبالهم رقاع تفضحهم)، والزناة: (يتركون اللحم النضج الطيب، ويأكلون اللحم النيئ، النتن، والنساء الزانيات معلقات بصدورهن)، وقاطعو الطريق، ومضيعو الأمانة، وخطباء الفتنة (تقرض ألسنتهم وشفاههم بمقارض من حديد، وكلما قرضت عادت)، وأصحاب الكلام الفاحش (على هيئة الثور الذي يخرج من جحر فلا يستطيع العودة فيه)، وأكلة أموال اليتامى (يلقمون الجمر في أفواههم فيخرج من دبرهم)، والمغتابون (لهم أظفار من نحاس يخدشون بها صدورهم ووجوههم ويقطع من جنوبهم اللحم فيلقمونه)، والذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، وعاقر ناقة صالح، والكذابون: (بيد كل واحد منهم كلوب من حديد يدخله في شدقه حتى يبلغ قفاه، ثم يخرجه، ويفعل بشدقه الآخر مثل ذلك، وكلما التأم شدقه عاد فيكرر فعله)، ومنهم أكلة الربا (والحيات في بطونهم).

وقد يسأل سائل كيف كان ذلك والساعة لم تقم بعد؟ والموتى لم يبعثوا بعد؟ وهنا يأتي التأكيد بأن الحاضر والماضي والمستقبل كله عند الله حاضر، والله تعالى قادر على أن يطلع من يصطفي من عباده عليه، وأن كلا من حدود الزمان والمكان من خلق الله، يحد بهما المخلوقين، والله سبحانه قادر على طيهما أو إلغائهما تماما، والتسليم بضخامة الكون وبتعاظم أبعاده.

 د. زغلول النجار

 

 

هل اعجبك الموضوع :

تعليقات